ما بين عشق دفين ومشاعر جياشة لم يجد أولئك العرب بدا من إعلان ما لديهم من أسرار كانت تأبي طبيعة الأخلاق العربية إفشائها؛ لأنها ربما تمس سمعة المحبوب واسمه.أبطال حلَّقوا في سماء الحب بأجنحة العاطفة الجياشة التي ساقتهم إلى حيث تريد عواطفهم التي حولت عقولهم إلى مطايا فانتسبوا شهرة إلى أسماء محبوباتهم. وتصدَّرهم «جميل بثينة» واسمه الحقيقي «جميل بن عبد الله بن مَعْمَر العُذْري القُضاعي» الذي ذاب عشقا في محبوبته «بثينة» ومن فرط ذكرها على لسانه لقبوه بـ «جميل بثينة».
ولجميل مع بثينة قصة عجيبة حيث كان يرعى إبله في منطقة تسمى «وادي بغيض»، وهناك صادف وجود «بثينة» طردت إبله وسمع منها ما يكره.. وما أن غضبت عليه حتى سبَّها فردت له الصاع صاعين فاستلذ كلامها وأحبها لدرجة العشق وقال في ذلك:
وَأَوَّلُ ما قادَ المَوَدَّةَ بَينَنا
بِوادي بَغيضٍ يا بُثَينَ سِبابُ
وَقُلنا لَها قَولاً فَجاءَت بِمِثلِهِ
لِكُلِّ كَلامٍ يا بُثَينَ جَوابُ
أما عنتر بن شداد.. ذلك الفارس المغوار فكان له مع عبلة مواقف مزج فيها بين النبل والإخلاص والوفاء والتنازل عن قدر يسير من عنفوان فروسيته في سبيل حبه إياها ورأته يوما مقطوع القميص فضحكت عليه فردَّ عليها بقوله:
ضَحِكَت عُبَيلَةُ إِذ رَأَتني عارِياً
خَلَقَ القَميصِ وَساعِدي مَخدوشُ
لا تَضحَكي مِنّي عُبَيلَةُ وَاِعجَبي
مِنّي إِذا اِلتَفَّت عَلَيَّ جُيوشُ
وهو ذاته الشاعر الشهم الأبي الأصيل الذي يكره الجبن كراهيته لنهاية الحياة حتى أنه يشبه مكانة عبلة لديه بمكانة الروح في جسد الجبان الذي يتمسك بالحياة فيقول:
أُحِبُّكِ يا ظَلومُ فَأَنتِ عِندي
مَكانَ الروحِ مِن جَسَدِ الجَبانِ
وَلَو أَنّي أَقولُ مَكانَ روحي
خَشيتُ عَلَيكِ بادِرَةَ الطِعانِ
وعاش عنترة شغوفا بليلى حتى أنه يذكر حبها في خضم المواجهات في المعارك. لم تقف ثنائيات العشق العربي لدى عنترة وجميل، فمنها قصة قيس بن الملوح الشهير بأنه «قيس ليلى» الذي أصبحت قصة حبه تراثا لجيل بعد جيل يرويها.. كان يهيم باسمها إنشادا في الصحراء.
كتب قيس بحق ليلى شعراً كان مسار تحفظات لدى البعض حتى أنه قال عنها:
أراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا
وَما بِيَ إِشراكٌ وَلَكِنَّ حُبَّها وَعُظمَ الجَوى أَعيا الطَبيبَ المُداوِيا
ولما سألوا قيسا ذات يوم عن الأحق بالخلافة وكانت من غرائب العصر الأموي أن يُسأل قيس وهو «قيس» الذي لا كلمة على لسانه إلا«ليلى» سألوه عن الأحق بالخلافة «بنوم هاشم أم بنو أمية؟».. رد قائلا: «ليلى» أي أن ليلى هي الأحق بالخلافة!!!!.
وعن بعد ليلى يقول قيس:
قَضاها لِغَيري وَاِبتَلاني بِحُبِّها
فَهَلّا بِشَيءٍ غَيرِ لَيلى اِبتَلانِيا
إلى أن ضاق به الحال فرفع يده بالدعاء يقول:
فَيا رَبِّ إِذ صَيَّرتَ لَيلى هِيَ المُنى
فَزِنّي بِعَينَيها كَما زِنتَها لِيا
وَإِلّا فَبَغِّضها إِلَيَّ وَأَهلَها
فَإِنّي بِلَيلى قَد لَقيتُ الدَواهِيا