العشاء الأخير .. تلك الليلة التي قرر فيها والي مصر محمد علي التخلص من أعداء الأمس، فسطر نهاية عهد المماليك، ليبدأ عهدًا جديدًا بدون أعداءه القدامى، ولكن ما حدث في تلك الليلة وما دافع محمد علي للتخلص منهم، كل تلك الأسئلة سنجيب عليها في ملخص القصة:
مَن يذق دفيء السلطة والنفوذ لن يخلع عباءة الحكم مهما حدث، ويبدو أن محمد علي باشا لم يشذ عن تلك القاعدة.
فبعد أن تمكن من إرساء دعائم حكمه وتوطيده، سعى والي مصر إلى التخلص، ليس فقط من منافسيه بل انقلب على أصدقاء الأمس.
قادة الحركة الشعبية الذين ساندوه ونصبوه واليًا على بلادهم وعلى رأسهم عمر مكرم الملقب بسيد الأشراف، فتخلص ممن تخلص منهم ونفى بعضهم، فيما سجن الآخرين.
ثم التفت إلى أعداء الأمس، فكانت البداية عند المماليك الذين حاول استرضائهم في البداية، فمنح أمرائهم بعض أقاليم الصعيد شرط الالتزام بدفع الضرائب له.
إلا أنهم بعدما أحكموا سيطرتهم على تلك الأقاليم رفضوا دفع الضرائب لمحمد علي وأخذوا ينظمون محاولة للانقلاب ضده، فعلى الفور أمر قواته بالاستنفار ضدهم استعدادًا لحرب شرسة.
علم المماليك حينها أنهم سيُهزمون أمام قوات محمد علي، فطلبوا العفو منه مجددًا، وحينها استجاب لمطالبهم وعفا عنهم، شرط أن يعودوا للقاهرة حتى يتأكد أنهم لن يكرروا ذلك ثانية.
فوافق أمراء المماليك على تلك الشروط. حتى جاءت الفرصة للتخلص منهم، بعدما طالبه السلطان العثماني بإرسال حملة عسكرية إلى الحجاز، فأرسل مبعوثيه إلى جميع أمراء المماليك في كل أنحاء المحروسة لدعوتهم إلى حضور حفل على شرف الجيش قبل سفره إلى الحجاز.
وفي الأول من مارس عام 1811 ، حضر المماليك العشاء الأخير لهم، بكامل زينتهم يمتطون أحصنتهم الأصيلة، فما كاد الحفل ينتهي حتى دعاهم إلى السير في موكب وداع الجيش.
وحرص أن يجعلهم بين مقدمة الجيش المغادر للحرب ومؤخرة الموكب المكونة من المرتزقة الألبان الذين انتدبهم خصيصًا لهذه المهمة.
وبذلك علق أمراء المماليك بين فكي كماشة محمد علي، وسار الموكب في الطريق الوعرة المنحدرة باتجاه باب العزب وهو باب القلعة من الجهة الغربية.
ولم يكن اختيار مسار الموكب اعتيباطيًا بل مدروس بدقة فائقة، حيث لعب الطريق المحدد دورًا مهمًا في حجب الرؤية عن المماليك الذين لم يدركوا ما يدور حولهم.
وما إن تجاوز المماليك البوابة حتى أغلقت من الخارج، واستدار الجنود الذين يسبقونهم وأصبحوا يواجهونهم، بينما تسلق الرجال الذين يسيرون خلفهم الصخور العالية.
لتبدأ أشهر وأكبر موقعة عرفها التاريخ الحديث، وينتهي عندها عصر المماليك. كانت خطة محمد علي مُحكمة فلم يترك للماليك أي وسيلة للهرب أو النجاة .
فعلى الرغم من محاولاتهم للفرار، إلا أن الأمر لم يفلح مع الكثير، فعلى سبيل المثال ، قد تمكن شاهين بك الألفي من الفرار من القلعة، قبل أن يلاحقه الجنود ويقضوا عليه.
ولم يكن سليمان بك أوفر حظًا من قريبه، فقد زحف إلى أن بلغ ثرايا الحريم وسقط على عتباتها صارخًا في عرض الحريم.
وقد سارت العادة في ذلك العصر، بأن من يطلب الحماية في عرض النساء لا يناله أي مكروه مهما كان ذنبه، بل يُغاث إلى حين.
ومع ذلك فقد لحق به الجنود وتخلصوا منه. ولم ينجوا من تلك الواقعة سوى رجل واحد يدعى أمين بك كان يسير في نهاية الموكب، وحينما رأى ما رأى فر بجواده ليقفز على سور القلعة الذي يبلغ ارتفاعه 60 قدمًا.
فنجا بأعجوبة من نهاية محققة، وفر إلى جنوب سوريا حيث قضى باقية أيامه. وقد خلد جورجي زيدان قصته في رواية المملوك الشارد. إلا أن قصة قلعة الجبل لم تنتهي هنا، فبدأت الكثير من الشائعات تطاردها عقب تلك الواقعة.
فالبعض أكد رؤية الأشباح والجان في موقع المقبرة الجماعية التي تقع قرب باب العزب، فيما أكد آخرون أن لعنة المماليك ظلت تطارد محمد علي حتى مماته. لكن المؤكد أن تلك الواقعة لم تكن لتمر على محمد علي وجنوده مرور الكرام.